فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: يعني فنحاص، وأشيع، وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} أن يقول لهم الناس علماء وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا خير، ويحبون أن يقول لهم الناس قد فعلوا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: هم أهل الكتاب، أنزل الله عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فرحوا أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله إليه، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ويصومون، ويصلون، ويطيعون الله، فقال الله لمحمد {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكفروا بالله، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصوم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في الآية قال: إن اليهود كتب بعضهم إلى بعض أن محمدًا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم، ففعلوا ففرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: كتموا اسم محمد ففرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون: نحن أهل الصيام، وأهل الصلاة، وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم. فأنزل الله فيهم {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} من كتمان محمد {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم وليسوا كذلك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} قال: بكتمانهم محمدًا {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} قال: هو قولهم نحن على دين إبراهيم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: يهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب، وحمدهم إياهم عليه. ولا تملك يهود وذلك ولن تفعله.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في الآية قال: هم اليهود يفرحون بما آتى الله إبراهيم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا. فأنزل الله: {لا تحسبن الذين يفرحون...} الآية.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير من وجه آخر عن قتادة في الآية قال: إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: إنا على رأيكم، وإنا لكم ردء. فأكذبهم الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: إن اليهود من أهل خيبر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد قبلنا الدين ورضينا به، فأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وأخرج مالك وابن سعد والبيهقي في الدلائل عن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: «لمَ؟» قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد. ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال. ونهانا أن نرفع صوتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت. فقال: «يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة؟!». فعاش حميدًا، وقتل شهيدًا، يوم مسيلمة الكذاب.
وأخرج الطبراني عن محمد بن ثابت قال: حدثني ثابت بن قيس بن شماس قال قلت: يا رسول الله لقد خشيت فذكره.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: كان في بني إسرائيل رجال عباد فقهاء، فأدخلتهم الملوك فرخصوا لهم وأعطوهم، فخرجوا وهم فرحون بما أخذت الملوك من قولهم وما أعطوا. فأنزل الله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم في قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} قال: ناس من اليهود جهزوا جيشًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس. أن رجلًا قال له: ألا تميل فنحملك على ظهر قال: لعلك من العراضين قال: وما العراضون؟ قال: الذين {يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} إذ عرض لك الحق فاقصد له واله عما سواه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر {فلا يحسبنهم} يعني أنفسهم.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرأ {فلا يحسبنهم} على الجماع بكسر السين ورفع الباء.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله: {بمفازة} قال بمنجاة، وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {هو خيرًا لهم بل هو شر لهم} كل واحد من صفتي البخل والسخاء بمنزلة الإكسير حتى يجعل الخير شرًا وبالعكس. {سيطوّقون} شبه بالطوق لأنه يحيط بالقلب ومنه ينشأ معظم الصفات الذميمة كالحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب والبخل «حب الدنيا رأس كل خطيئة». {ولله ميراث السموات والأرض} الإنسان ورث الدنيا والآخرة أولئك هم الوارثون. والوارث إذا مات من غير وارث فميراثه لبيت المال. فالإشارة فيه أن من غلب عليه هذه الصفات ومات قلبه فقد بطل استعداد وراثته فميراثه لله {إن الله فقير ونحن أغنياء} فيه أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، فيعكس القضايا فيصف الرب بصفات العبد والعبد بصفات الرب وذلك لغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى والشيطان، فيقول تارة: أنا ربك الأعلى، وتارة إن الله فقير ونحن أغنياء.
{بقربان تأكله النار} قالت يهود صفات النفس البهيمية والسبعية والشياطنية لا ننقاد لرسول أي لخاطر رحماني أو إلهام رباني حتى يأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها يجعلها نسيكة لله عز وجل، تأكله نار الله الموقدة التي تقدح من زناد محبتهم، فإن كثيرًا من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قربانًا لله فلا تأكله نار الله، قل يا وارد الحق {قد جاءكم رسل من قبلي} أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة {وبالذي قلتم} أي بجعل الدنيا قربانًا {فلم قتلتموهم} غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم يبق أثر الواردات. {كل نفس ذائقة الموت} كلهم مستعدون للفناء في الله، ولابد لها من موت. فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب، ومن كان فناؤه في الله يكون بقاؤه بالله. {لتبلون} بالجهاد الأكبر {ولتسمعن} من أهل العلم الظاهر ومن أهل الرياء {أذى كثيرًا} بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض {وإن تصبروا} على جهاد النفس {وتتقوا} بالله عما سواه {فإن ذلك من عزم الأمور} أي من أمور أولي العزم {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] والله أعلم.
أهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {وَلاَ يَحْزُنكَ} لتوقع الضرر، أو لشدة الغيرة {الذين يسارعون في الكفر} لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئًا} فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله عليه وسلم، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع {يُرِيدُ الله} إظهارًا لصفة قهره {ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا في الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176] لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار {إِنَّ الذين اشتروا الكفر} وأخذوه بالإيمان بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئًا} ولكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 177] لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} ونزيد في مددهم {خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} ينتفعون به في القرب إلينا {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} بسبب ذلك لازديادهم حجابًا على حجاب وبعدًا على بعد {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] لفرط بعدهم عن منبع العز {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان {حتى يَمِيزَ الخبيث} من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى {مِنَ الطيب} وهو صفات القلب كالإخلاص، واليقين، والمكاشفة، ومشاهدة الروح، ومناغاة السر ومسامراته، وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه {مَّا كَانَ الله} بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم {وَإِن تُؤْمِنُواْ} بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة {وَتَتَّقُواْ} الحجب والموانع {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] من كشف الحقيقة، وقد يقال: إن لله تعالى غيوبًا، غيب الظاهر، وغيب الباطن وغيب الغيب، وسر الغيب، وغيب السر، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والإطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلًا فإن الأزلية منزهة عن الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} من المال، أو العلم، أو القدرة، أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين، أو المستعدين، أو الأنبياء، والصديقين في الذب عنهم، أو في الفناء في الله تعالى: {هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} لاحتجابهم به {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} [آل عمران: 180] وقد ذكر بعض العارفين إن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال: إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين، والسخاء بالنفس وصف المحبين، وبالروح وصف العارفين.
وقال ابن عطاء: السخاء بذل النفس والسر والروح والكل، ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقي معه، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا، وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية، ومن هنا تقول: {أنا ربكم الأعلى} أحيانًا مع حجابها وبعدها عن الحضرة {الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} قيل: أنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله، وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ} هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عز وجل فتأكلها نار المحبة {قُلْ} يا وارد الحق {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى} أي واردات الحق {بالبينات} بالحجج الباهرة {وبالذى قُلْتُمْ} وهو جعل الدنيا وما فيها قربنًا {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرًا لتلك الواردات {إِن كُنتُمْ صادقين} [آل عمران: 183] في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك {فَإِن كَذَّبُوكَ} خطاب للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بالبينات} للعوام {والزبر} للمتوسطين {والكتاب المنير} [آل عمران: 184] للخواص، ويحتمل أن يكون الأول: إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني: إلى توحيد الصفات، والثالث: إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] ولهذا أتى بالكتاب مفردًا ووصفه بالمنير، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} على اختلافها يوم القيامة {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة {وَأُدْخِلَ الجنة} المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة، أو الجنة بالمعنى الأعم {فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا} ولذاتها الفانية {إِلاَّ متاع الغرور} [آل عمران: 185] لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي {لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها.
وقال بعض العارفين: إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك من الأموال ابتلاءًا وامتحانًا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل: أنا الحق، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زنية الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة، ومن نظر إلى نفسه من حيث أنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24]، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 176] وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وهم أهل مقام الجمع {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} وهم أهل الكثرة {أَذًى كَثِيرًا} لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعًا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع {وَأَن تَصْبِرُواْ} على مجاهدة أنفسكم {وَتَتَّقُواْ} النظر إلى الأغيار {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الامور} [آل عمران: 186] أي من الأمور المطلوبة التي تجرّ إلى المقصود والفوز بالمطلوب {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 186] آنفًا ومن حمله عليه تكلف جدًا فلعله باق على ظاهره أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقًا وضمير {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] الخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر و{لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ} أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس، أو أن يكونوا محمودين عند الله {بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] وهو عذاب الحرمان والحجاب {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [آل عمران: 189] لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته. اهـ.